مع بزوغ فجر أول أيام عيد الأضحى المبارك، وفي الوقت الذي تعج فيه البيوت بضحكات الأطفال وبهجة اللقاءات العائلية، تتجه خطوات كثير من السيدات وجهة أخرى، وجهة يمتزج فيها الحنين بالدموع، والرجاء بالدعاء.

 

المقابر، التي عادة ما تكون رمزاً للصمت والوحشة، تتحول في صبيحة العيد إلى مساحات للوصل الروحي، حيث تجتمع الأرواح الحية مع ذكريات أحبائها الراحلين في مشهد فريد يجسد أسمى معاني الوفاء والحب الأبدي.

 

هذه العادة، التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من طقوس العيد لدى فاقدي الأقارب، ترسم لوحة إنسانية مؤثرة تعبر عن أن الفقد لا يعني النسيان، وأن فرحة العيد، وإن كانت منقوصة، تجد طريقها للقلب عبر استحضار ذكرى من كانوا يوماً ما سبباً رئيسياً فيها.

 

مشاهد مؤثرة في صباح العيد

منذ الساعات الأولى للصباح، وبعد انتهاء صلاة العيد مباشرة، تبدأ وفود السيدات في التوافد على المقابر في مختلف أنحاء البلاد، خاصة في مدن مثل القاهرة والجيزة.

 

تحمل كل منهن ما تيسر من أدوات الذكرى؛ مصحفاً صغيراً، سبحة، زجاجة ماء لرش القبر، وباقات من الريحان أو الزهور التي يفوح عطرها في المكان ليعلن عن زيارة محملة بالشوق. تجلس السيدات، كلٌ عند قبر فقيدها، لتبدأ طقوسها الخاصة التي تتنوع بين قراءة ما تيسر من القرآن الكريم، والدعاء للميت بالرحمة والمغفرة، وأحياناً توزيع الحلوى أو "كعك العيد" على الفقراء كصدقة جارية على روح الغائب.

 

لا تخلو هذه المشاهد من دموع صامتة تنهمر على الوجوه، وكلمات هامسة كأنها حديث مباشر مع من يسكن القبر، في محاولة لإشراكه في فرحة العيد التي لم تكتمل بغيابه.

 

شهادات حية.. حديث الروح للروح

تحمل كل زائرة قصة مختلفة وحزناً فريداً، لكن يجمعهن رابط مشترك هو ألم الفقد والرغبة في استحضار ذكرى من رحلوا. السيدة "أمينة"، وهي أرملة في الستين من عمرها، تجلس عند قبر زوجها الذي توفي قبل عامين، وتشاركه تفاصيل حياتها اليومية وأخبار الأبناء والأحفاد.

 

تعتبر هذه الزيارة فرضاً لا يمكن التنازل عنه في كل عيد ومناسبة. تقول بصوت يغالبه الحزن: "لا يكتمل العيد بدونه. آتي إلى هنا لأعايده وأخبره أننا لم ننسه أبداً، وأن مكانه في قلوبنا وفي بيتنا لا يزال شاغراً. هذا المكان هو الصلة الوحيدة المتبقية بيننا، وهنا أشعر بقربه أكثر من أي مكان آخر".

 

تتكرر هذه الشهادات بصور مختلفة، فها هي أم شابة تزور قبر طفلها الصغير، وقد أحضرت معها بعض ألعابه المفضلة لتضعها بجوار الشاهد. وهناك ابنة تزور قبر والدتها، وتقرأ لها الفاتحة وتتذكر معها ضحكاتها ونصائحها. في قلب هذا المشهد، تلخص سيدة أخرى تجربتها قائلة:

 

"يقولون إن الموتى لا يشعرون، لكني أشعر أن روحه هنا معي. أتحدث إليه وأبكي، ثم أشعر براحة وسكينة وكأنه يطمئنني. هذه الزيارة ليست مجرد عادة، بل هي حاجة نفسية وروحية، هي دوائي الذي أواجه به مرارة غيابه في يوم يفترض أن يكون للفرح والاجتماع".

ظاهرة اجتماعية بين العادة والحاجة النفسية

يرى علماء الاجتماع والنفس أن هذه الظاهرة، التي تتزايد بشكل ملحوظ، تمثل آلية تكيف مهمة للتعامل مع الحزن، خاصة في المناسبات الاجتماعية التي تثير مشاعر الفقد بقوة. إن زيارة المقابر في الأعياد تمنح الأفراد شعوراً بالسيطرة على حزنهم عبر تحويله إلى طقس إيجابي من الدعاء والذكرى.

 

فبدلاً من الانعزال والبكاء في المنزل، يختارون المواجهة والمشاركة الرمزية مع الفقيد. ورغم وجود آراء فقهية متباينة حول تفاصيل هذه الطقوس، إلا أن البعد الإنساني والنفسي يطغى على المشهد، حيث يجد هؤلاء في زيارة أحبائهم الراحلين سلوى وعزاءً، وطريقة للحفاظ على الروابط الأسرية ممتدة حتى ما بعد الموت، مؤكدين أن الحب أقوى من الغياب وأن الذكرى الطيبة هي خير ما يهديه الحي للميت في هذه الأيام المباركة.