في اكتشاف علمي قد يغير من أساليب الوقاية والتشخيص المبكر لأحد أكثر أنواع السرطان شيوعاً، كشفت دراسة دولية واسعة النطاق عن وجود صلة مباشرة بين أنواع معينة من بكتيريا الأمعاء (الميكروبيوم) لدى الأطفال وزيادة خطر الإصابة بسرطان القولون والمستقيم في مراحل لاحقة من حياتهم.
ونُشرت نتائج هذه الدراسة الرائدة في مجلة "Cell Host & Microbe" العلمية المرموقة، حيث قدمت أدلة قوية على أن تكوين الميكروبيوم في السنوات الأولى من العمر يمكن أن يكون مؤشراً حيوياً مهماً للتنبؤ بالمخاطر الصحية المستقبلية، مما يفتح آفاقاً جديدة للتدخلات الوقائية المبكرة التي تستهدف صحة الجهاز الهضمي منذ الصغر.
آلية التأثير: كيف تساهم البكتيريا في تطور المرض؟
تركز الدراسة بشكل أساسي على سلالات معينة من بكتيريا الإشريكية القولونية (E. coli) التي تحمل جيناً يعرف باسم "pks island". هذا الجين مسؤول عن إنتاج مادة سامة للجينات تسمى "الكوليباكتين" (colibactin).
ووفقاً للباحثين، فإن هذه المادة السامة قادرة على إحداث تلف مباشر في الحمض النووي (DNA) للخلايا المبطنة لجدار القولون.
ومع مرور الوقت والتعرض المستمر لهذه المادة السامة خلال مرحلتي الطفولة والمراهقة، يمكن أن تتراكم الطفرات الجينية في هذه الخلايا. هذه الطفرات المتراكمة هي التي تزيد من احتمالية تحول الخلايا السليمة إلى خلايا سرطانية، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى تطور سلائل القولون الحميدة التي قد تتحول لاحقاً إلى أورام خبيثة.
منهجية الدراسة ونتائجها الرئيسية
للوصول إلى هذه النتائج، قام فريق البحث بتحليل بيانات وميكروبيوم الأمعاء لأكثر من 1200 طفل من عدة دول أوروبية، ضمن دراسة طويلة الأمد تتبعت صحتهم على مدى عقود. تم جمع عينات براز من الأطفال في سن مبكرة لتحليل أنواع البكتيريا الموجودة في أمعائهم، ثم تمت متابعة السجلات الصحية لهؤلاء الأفراد حتى بلوغهم سن الرشد.
وأظهرت النتائج أن الأطفال الذين كانت أمعاؤهم تحتوي على سلالات الإشريكية القولونية المنتجة للكوليباكتين كانوا أكثر عرضة بنسبة ملحوظة لتطور سلائل القولون المتقدمة أو سرطان القولون مقارنة بأقرانهم الذين لم يحملوا هذه السلالات البكتيرية.
وقد عززت هذه النتائج فرضية "التلف المبكر، والتأثير المتأخر"، حيث يبدأ الضرر الجيني في سن مبكرة ليظهر تأثيره السريري بعد سنوات طويلة.
آفاق جديدة للوقاية والتشخيص المبكر
يؤكد الباحثون أن هذا الاكتشاف لا يعني أن كل طفل يحمل هذه البكتيريا سيصاب بالسرطان حتماً، بل يشير إلى وجود عامل خطر جديد يمكن رصده والتعامل معه. وفي هذا السياق، صرح الدكتور هانس كليفرز، أحد كبار الباحثين المشاركين في الدراسة، قائلاً:"هذه النتائج تمثل نقلة نوعية في فهمنا لكيفية بدء سرطان القولون. فبدلاً من التركيز فقط على عوامل الخطر في مرحلة البلوغ، يمكننا الآن النظر إلى نافذة زمنية حرجة في الطفولة. هذا يفتح الباب أمام تطوير اختبارات فحص جديدة للأطفال المعرضين للخطر، وربما استراتيجيات وقائية تعتمد على تعديل ميكروبيوم الأمعاء من خلال النظام الغذائي أو البروبيوتيك."
وتشمل التطبيقات المستقبلية المحتملة تصميم علاجات تستهدف القضاء على هذه السلالات البكتيرية الضارة أو تثبيط إنتاجها لمادة الكوليباكتين السامة، مما قد يقلل من خطر الإصابة بالمرض بشكل كبير.
خلاصة وتوصيات مستقبلية
في الختام، تقدم هذه الدراسة دليلاً قوياً على أن صحة الأمعاء في الطفولة لها تأثير عميق وطويل الأمد على الصحة العامة في الكبر. ورغم أن عوامل أخرى مثل الوراثة والنظام الغذائي ونمط الحياة لا تزال تلعب دوراً حاسماً في تطور سرطان القولون، فإن إضافة الميكروبيوم كعامل خطر رئيسي يغير من قواعد اللعبة.
ويوصي الخبراء بضرورة إجراء المزيد من الأبحاث لتأكيد هذه النتائج وتطوير تدخلات عملية وآمنة. كما يشددون على أهمية تعزيز صحة الجهاز الهضمي لدى الأطفال من خلال تشجيع الرضاعة الطبيعية، وتوفير نظام غذائي غني بالألياف، وتجنب الاستخدام غير الضروري للمضادات الحيوية التي قد تخل بتوازن ميكروبيوم الأمعاء الدقيق.