في خطوة تعكس استمرارية استراتيجيته الطويلة الأمد لتنويع أصوله الاحتياطية بعيداً عن هيمنة الدولار الأمريكي، أعلن بنك الشعب الصيني (البنك المركزي) عن زيادة احتياطياته من الذهب للشهر السابع عشر على التوالي.
وتشير البيانات الرسمية الصادرة مؤخراً إلى أن البنك أضاف كميات جديدة من المعدن الأصفر النفيس إلى خزائنه، مؤكداً بذلك على دوره كأحد أكبر المشترين الرسميين للذهب في العالم. ووفقاً للأرقام المحدثة، ارتفع إجمالي حيازات الصين من الذهب ليصل إلى مستوى قياسي جديد، حيث بلغ 72.80 مليون أونصة تروي بنهاية شهر مارس 2024.
هذه الزيادة المستمرة، وإن كانت بوتيرة متفاوتة، ترسل إشارات واضحة للأسواق المالية العالمية حول سعي بكين الحثيث لتعزيز استقلالها المالي وتحصين اقتصادها ضد التقلبات الجيوسياسية والضغوط الاقتصادية الخارجية.
استراتيجية راسخة لتنويع الأصول
لا يمكن قراءة عمليات الشراء المتتالية هذه بمعزل عن السياق الاقتصادي والسياسي العالمي الأوسع. فمنذ سنوات، تعمل الصين بشكل منهجي على تقليل اعتمادها على الأصول المقومة بالدولار الأمريكي، والتي تشكل تاريخياً الجزء الأكبر من احتياطياتها الأجنبية الضخمة.
يُنظر إلى الذهب، بصفته ملاذاً آمناً لا يخضع لسلطة أي دولة أو بنك مركزي، على أنه الأداة المثالية لتحقيق هذا الهدف. فهو يوفر تحوطاً فعالاً ضد مخاطر التضخم، وتقلبات أسعار صرف العملات، والأهم من ذلك، يقلل من تعرض الصين لأي إجراءات عقابية أو ضغوط مالية قد تفرضها الولايات المتحدة.
إن تكديس الذهب يمثل جزءاً لا يتجزء من رؤية الصين لتعزيز مكانة اليوان كعملة دولية، حيث يمنح الاحتياطي الذهبي القوي ثقة إضافية في العملة الوطنية على الساحة العالمية.
اتجاه عالمي تقوده البنوك المركزية
إن ما تقوم به الصين ليس ظاهرة معزولة، بل هو جزء من اتجاه عالمي متنامٍ بين البنوك المركزية، خاصة في الاقتصادات الناشئة. فقد أظهرت تقارير مجلس الذهب العالمي أن عامي 2022 و2023 شهدا عمليات شراء صافية للذهب من قبل القطاع الرسمي بمستويات تاريخية.
وانضمت دول مثل تركيا، والهند، وبولندا، وسنغافورة إلى الصين في زيادة حيازاتها من المعدن الثمين، مدفوعة بمخاوف مماثلة تتعلق بالاستقرار المالي والسيادة الاقتصادية.
هذا الطلب القوي والمستمر من البنوك المركزية شكل أحد أهم العوامل الداعمة لأسعار الذهب، وساهم في وصولها إلى مستويات قياسية في الآونة الأخيرة، مما يبرهن على تجدد الثقة العالمية في الذهب كأصل احتياطي أساسي في أوقات عدم اليقين.
يرى محللون أن "عمليات الشراء الصينية ليست مجرد قرار استثماري، بل هي مناورة جيوسياسية محسوبة بعناية فكل أونصة ذهب تضاف إلى الاحتياطيات هي خطوة نحو بناء نظام مالي عالمي متعدد الأقطاب وأقل اعتماداً على واشنطن إنها رسالة قوية مفادها أن الصين تسعى لامتلاك أدواتها الخاصة لضمان أمنها الاقتصادي في عالم يزداد استقطاباً وتعقيداً."
تأثيرات محتملة على الأسواق العالمية
من المتوقع أن يكون لاستمرار هذا النهج الصيني تداعيات كبيرة على المدى الطويل. فعلى صعيد سوق الذهب، يوفر الطلب المستمر من لاعب بحجم الصين دعماً قوياً للأسعار، وقد يدفعها إلى مزيد من الارتفاعات، خاصة إذا استمرت التوترات الجيوسياسية في التصاعد.
أما على الصعيد الأوسع، فإن هذا التحول التدريجي قد يساهم بمرور الوقت في إضعاف الدور المركزي للدولار الأمريكي كعملة احتياطي عالمية مهيمنة. ورغم أن هذا التغيير لن يحدث بين عشية وضحاها، إلا أن كل عملية شراء للذهب من قبل قوة اقتصادية كبرى مثل الصين تمثل لبنة إضافية في صرح نظام مالي عالمي جديد قيد التشكل.
سيواصل المراقبون والمستثمرون حول العالم متابعة بيانات بنك الشعب الصيني الشهرية عن كثب، بحثاً عن أي مؤشرات حول وتيرة وطموحات بكين في سباقها نحو تعزيز سيادتها الذهبية.